علي انزولا يرد على تصريح اوجار
أثار تصريح وُصف بالغموض لمحمد أوجار خلال ندوة بجامعة محمد الخامس بالرباط ردود فعل متفاوتة، إذ قد يَظهر للمتابع البعيد، أو لمن لا يعرف تفاصيل الممارسة الحزبية المغربية، أن الأمر يتعلّق بموقف جريء أو بتحول لافت في خطاب شخصية ارتبطت طويلاً بدور ظلّ ولم تُعرف لها مواقف حاسمة في لحظات كانت تتطلب الشجاعة والإقدام.
غير أن الاستماع التفصيلي لكلمة أوجار يكشف أن الرجل بنى خطابه على سردية تاريخية انتقائية ومبتسرة لتاريخ حزبه الذي صنعته الدولة عندما كان مؤسسه قريباً من الملك الراحل الحسن الثاني. وغالباً ما يختبئ الذين لا أفكار لهم وراء محكيات تشبه “الحجايات” لإطالة الحديث ولفت الانتباه، وهذه خاصية تكاد تكون عامة لدى أغلب “زعماء” الأحزاب السياسية المغربية التقليديين، قديماً وحديثاً، وأكثر من يجسد هذه الخاصية اليوم عبد الإله بنكيران؛ فمن يستمع إلى “قفشاته” سيلاحظ أن الرجل يكرر دائماً نفس “الحدوثة” بطريقة مختلفة: “كنت، وفعلت، وقلت…”.
جاءت كلمة أوجار متلعثمة بلا أفكار وبلا حبل ناظم، ينتقل صاحبها من نقطة إلى أخرى في نوع من التيه يجعل فهم ما يريد قوله أمراً صعباً. ومع ذلك فقد حملت كلمته الكثير من المغالطات التي أراد بها “تبييض” تاريخ الحزب الذي ينتمي إليه، “التجمع الوطني للأحرار”، ولذلك عاد إلى لحظة الولادة أو “لعنتها” التي ظلت تلاحقه باعتباره “حزباً إدارياً” صُنع في دهاليز “الدولة العميقة”. وهكذا بدأ بالافتراء على التاريخ القريب بالقول إن حزبه “التجمع الوطني للأحرار” لم يكن صنيعة الدولة، رغم أنها هي التي خلقته من عدم. وإلا فكيف سيفسّر أوجار أن الحزب عندما خرج إلى الوجود عام 1977 ظهر تحت قبة البرلمان وهو يملك أغلبية من 148 نائباً، في زمن كانت فيه الانتخابات تُزوّر في واضحة النهار؟ حزب كان على رأسه صهر الملك الراحل، وصديق دراسته، ووزيره الأول أحمد عصمان؟ هل كل هذه مصادفات؟ إذا لم يكن هذا الحزب صنيعة الدولة، فما تاريخه قبل حادثة “الخلق” هذه؟
لكن أوجار يتناقض مع نفسه، أو يتغابى، أو يعتبر أنه يستطيع التعامل مع الناس كما لو كانوا أغبياء، عندما يقول إن الحزب أوجده الحسن الثاني كآلية لمواجهة “الكتلة” التي كانت متحكمة في الشارع والجامعة والإعلام، ولإحداث نوع من التوازن! فما هو التوازن الذي خلقه هذا الحزب داخل الساحة السياسية؟ حزب خُلِق من البداية بأغلبية ساحقة ومصنوعة داخل البرلمان، وعلى رأسه صهر وصديق الملك ووزيره الأول، وجمع حوله كل انتهازيي ذلك العصر من نخب وأعيان وكل نطيحة ومتردية وما أكل السبع وعفا الضبع؟
ثم ينتقل أوجار إلى التذكير بفرية أصبحت لازمة يكررها في كل مداخلاته، ربما لأنها لم تُصحح أول مرة حتى اعتبرها حقيقة “تاريخية” يرددها أينما حل وارتحل، حتى تحولت إلى مِنّة كان يمُنّ بها في البداية على حزب “الاتحاد الاشتراكي”، باعتبار أن زعيم حزبه هو الذي وقف ضد حله عام 1981، والآن أصبح يمُنّ بها على المغاربة قاطبة، باعتبار أنه لولا الموقف “الشجاع” لزعيم حزبه “التاريخي” أحمد عصمان لما عرف المغرب “الديمقراطية الحسنية” التي مازلنا “نرفل في نعمها” حتى يوم الناس هذا!
والواقعة التي يحكيها أوجار بكثير من الدرامية وتضخيم دور “البطل” أحمد عصمان حدثت عندما عاد الملك الحسن الثاني من قمة نيروبي عام 1981، وقد سبق عودته صدور بلاغ قيادة “الاتحاد الاشتراكي” الرافض قرار الملك بقبول إجراء استفتاء في الصحراء. وفي لحظة غضب، بسبب عبارة “مهينة” وردت في ذلك البلاغ، أمر الملك باعتقال الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد. اجتمع الملك مع وزرائه، بمن فيهم وزيره الأول أحمد عصمان، وكبار قادة الجيش، وفي لحظة غضب طرح فكرة حل الحزب ضمن خيارات أخرى، كان من بينها محاكمة بوعبيد أمام المحكمة العسكرية. ويبدو أن عصمان، بحكم قربه العائلي والشخصي من الملك، أبدى رأياً يتوسل فيه رحمة وعطف الملك، وربما أوكلت إليه مهمة أداء هذا الدور أمام كبار قادة الجيش، لأن الجميع كان يعرف آنذاك أن الحسن الثاني لن يفعلها حتى وإن قالها في لحظة غضب، لأنه كان يدرك أهمية وجود حزب “الاتحاد الاشتراكي”، خاصة بقيادة عبد الرحيم بوعبيد، في تزيين صورة “ديمقراطيته الحسنية” في الخارج لإخفاء الطابع الاستبدادي لنظام حكمه. هذه الواقعة، التي لا تصلح حتى أن تكون “نكتة”، يعيد أوجار تكرارها في كل مناسبة ليجعل منها فعلاً “بطولياً” لرئيسه السابق قبل أن ينقلب عليه.
وتلك قصة أخرى، إنها قصة أوجار نفسه الذي جاء إلى السياسة موظفاً بسيطاً في ديوان أحمد عصمان عندما كان رئيساً لمجلس النواب، قادماً من تجربة إعلامية صغيرة بمدينة وجدة، عبارة عن جريدة اسمها “الأسبوع الشرقي”، تخصصت في متابعة أنشطة ابن مدينة وجدة أحمد عصمان، الذي كان يترشح في المدينة نفسها، ويرأس “جمعية أنكاد المغرب الشرقي” التي كانت بمثابة “ذراع” الحزب داخل المجتمع المدني في المنطقة الشرقية. وبسرعة، تسلق أوجار السلالم من موظف صغير في ديوان رئيس مجلس النواب إلى مدير تحرير جريدة “الميثاق” الناطقة باسم الحزب، والتي رغم الإمكانات المادية التي أعطيت لها لم يكن لها أي تأثير على الرأي العام المغربي، أمام صحف المعارضة الكبيرة مثل “الاتحاد الاشتراكي” و”العلم” وإلى حد ما “بيان اليوم” و”أنوال”.
وعندما بدأ الحسن الثاني يمهد لانفتاح محسوب بعد سقوط جدار برلين، سمح عام 1989 بتأسيس “المنظمة المغربية لحقوق الإنسان”، التي انتُخب على رأسها أول مرة المهدي المنجرة، لكنه عندما وجد نفسه داخل منظمة صنعتها “الدولة العميقة”، قدّم استقالته ليخلفه عمر عزيمان. وداخل مكتب تلك المنظمة تم توزيع الحصص بين الأحزاب السياسية، وهكذا وجد أوجار، إلى جانب زميله في الحزب مصطفى اليزناسني، نفسيهما عضوين داخل المنظمة بصفتهما الحزبية، ليتحول أوجار، بقدرة قادر، إلى “مناضل حقوقي” سيُمنح حقيبة وزير حقوق الإنسان في حكومة “التناوب”، وهو الذي لم تعرف له مواقف حقوقية شاهدة على ما كان يُرتكب آنذاك من تجاوزات وقمع واضطهاد لأبسط حقوق الإنسان، وأرشيف جريدة “الميثاق” وثيقة شاهدة على “الصمت” الذي كان يختبئ وراءه أوجار وحزبه خلال فترات القمع القاسية التي شهدها المغرب آنذاك.
تماماً كما يحدث اليوم؛ فأوجار الذي لم يُسمع له صوت بشأن الاعتقالات السياسية التي طاولت صحفيين ومدونين ونشطاء حقوقيين و”شباب زد”، لن نقرأ له رأياً عن المحاكمات غير العادلة، ولا عن التطبيع مع إسرائيل، ولا عن سفر وزراء ورجال أعمال من حزبه إلى دولة “الإبادة الجماعية”. بل لا يجب أن ننسى أنه في عهده عندما كان وزيراً للعدل ووزيراً لحقوق الإنسان ورئيساً للنيابة العامة في حكومة سعد الدين العثماني، ارتُكبت أبشع تجاوزات حقوق الإنسان ضد شباب “حراك الريف”، الذين تعرضوا للتعذيب حسب شهاداتهم أمام المحاكم وحسب تقارير منظمات دولية، بل وحسب التقرير الطبي الذي أنجزه “المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، وتسربت نسخة منه من مكاتب وزارة العدل التي كان يرأسها أوجار، وأدى تسريب التقرير إلى غضب الأجهزة على إدريس اليزمي وعزله من رئاسة “المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، دون أن يُعاقَب من قام بتسريب التقرير الذي بسببه عوقب اليزمي!
غيض من فيض من تاريخ ملتبس ومضطرب، لكنه ما يزال طرياً، ولا يمكن الكذب على المغاربة بتزويره لتبييض حزب إداري خلقته السلطة ومازالت ترعاه. وإذا أراد أوجار اليوم أن يتحول إلى الشاهد الوحيد أو الشاهد الأخير داخل هذا الحزب، باعتباره أحد أقدم أعضائه الذين رافقوه منذ عهد رئيسه المؤسس حتى اليوم، فعليه أن يصارح المغاربة كيف انقلب على “عرّابه” و”رئيسه” داخل الحزب أحمد عصمان، وأسس “لجنة تصحيحية” عام 2006 للانشقاق عن الحزب في البداية، قبل أن ينقلب هو وأعضاء آخرون على رئيسهم وينصبوا مصطفى المنصوري، الذي كان يحظى بعطف رجال “العهد الجديد” آنذاك، رئيساً عليهم. فالمعروف أن اجتماع الانقلاب على عصمان جرى في بيت أوجار، وحدث ذلك في زمن كان فيه “العهد الجديد” يرتب بيته الداخلي ويجرب تأسيس أحزاب من صنيعته، قبل أن يكتشف أنه طرق الباب الخطأ، وأعاد الكرة بمحاولة تأسيس “الحزب العمالي” موكلاً المهمة، هذه المرة، إلى عبد الكريم بنعتيق، وعندما ستفشل كل محاولاته سيخرج “العهد الجديد” كاشفاً عن مولوده الجديد “الأصالة والمعاصرة”. ولأن الدولة العميقة لا تفرّط في خدامها، سيُعيَّن أوجار عضواً “حكيماً” داخل “الهاكا” لمدة خمس سنوات براتب خمسين ألف درهم شهرياً، هنيئاً مريئاً.
ومرة أخرى سيبرز اسم أوجار عند الانقلاب الثاني على رئيس حزبه مصطفى المنصوري. وعلى أوجار أن يكشف للمغاربة من نقل كلام المنصوري أثناء اجتماع في بيت هذا الأخير، حضره بعض الأعضاء الغاضبين من الحزب وكان أوجار من بين الحضور، جاؤوا ليلاً يشتكون لرئيسهم من تصرف الإدارة ضدهم في الانتخابات الجماعية لعام 2009، التي حصد فيها حزب “الأصالة والمعاصرة” المخلوق حديثاً الأغلبية بلا منازع. وفي لحظة غضب شبّه أحد الأعضاء الغاضبين ما حصل بأنه يذكّر بسنوات الجمر والرصاص، لكن من نقل “الوشاية” ليلا إلى قيادة “الأصالة والمعاصرة” آنذاك نسب الكلام إلى المنصوري، وحوّره ليصبح تحذيراً، على لسان المنصوري، من أن “الوافد الجديد”، كما كان يوصف “الأصالة والمعاصرة”، سيعيد المغرب إلى سنوات الجمر والرصاص. كانت هذه الحادثة بمثابة رصاصة الرحمة التي أعلنت نهاية المنصوري، ليظهر اسم أوجار ورشيد الطالبي العلمي “الثنائي الدائم” داخل الحزب، ودائماً ضمن “لجنة تصحيح”، لقيادة الانقلاب على رئيسهم المطاح به وتنصيب مزوار رئيساً جديدا عليهم، وهو الذي جاءت به الدولة العميقة للمنصب وصنعت له تجمعاً حزبياً كبيراً أطلقت عليه “جي 8” لأنه كان يتألف من ثمانية أحزاب، من بينها “الأصالة والمعاصرة” الذي أوقف تغوّله حراك “20 فبراير”. كان الهدف من وراء “جي 8″، الذي دعمته الدولة العميقة، هو وقف زحف الإسلاميين على صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية عام 2012، لكن عندما أعلن وزير الداخلية آنذاك الطيب الشرقاوي فوز الإسلاميين أعلن نهاية عهده في الوزارة، وفي نفس الوقت أعلن سقوط مزوار الذي أصبح لقمة سائغة تنهشها “اللجنة التصحيحية” الجديدة التي تحركت من جديد بالوجوه نفسها والبرنامج نفسه للانقلاب على رئيسهم الذي لم يمضِ على توليه المنصب أكثر من أربع سنوات. وبرز مرة أخرى اسم أوجار كمنافس على الرئاسة هذه المرة، لكن الدولة العميقة كان لها رأي آخر، وفي اجتماع دُبّر بليل جيء بعزيز أخنوش، الذي كان وزيراً لا منتمياً، زعيماً جديداً للحزب. أما أوجار فذهب سفيراً للمغرب في جنيف، وما أدراك ما جنيف، حيث لا ينال هذا المنصب إلا من يحظون برضى “الدولة العميقة” الحقيقية، للدفاع عن سجلها في حقوق الإنسان أمام الاجتماعات الدورية للمفوضية السامية لحقوق الإنسان وتبييض الانتهاكات والتجاوزات التي تسجلها المنظمات الحقوقية المغربية والدولية في هذا المجال أمام اجتماعات اللجنة الأممية. وبعد عملية الانقلاب، التي سُميت بـ”البلوكاج”، والتي قادتها الدولة العميقة ضد عبد الإله بنكيران عام 2016، استُدعي أوجار من جنيف ليشغل منصب وزير العدل طيلة خمس سنوات في حكومة العثماني، وهي الحكومة التي شهدت اعتقالات ومحاكمات “حراك الريف”، ووقّعت على اتفاقات التطبيع مع إسرائيل عام 2020، وطيلة عمر هذه الحكومة لم يُعرف عن أوجار أي موقف ينتقد فيه تحكم “الدولة العميقة” في رئيسها ووزرائها وبرلمانييها ومنتخبيها! أو لم تكن الدولة العميقة، آنداك، هي نفسها الموجودة اليوم، تتحكم في الوزراء والمنتخبين؟!
من يجرّ وراءه هذا التاريخ لا يمكنه أن يأتي اليوم ليحاضر في الشجاعة السياسية، ويفتعل انتقادات محسوبة لـ”الدولة العميقة” التي رعت حزبه ومازالت ترعاه، بل وتُهيمن اليوم على الحياة السياسية والإعلامية والحزبية والنقابية بصفة عامة.
وبناء على كل ذلك، يثير الخطاب الأخير لأوجار تساؤلات حول خلفياته: هل ما عبّر عنه مراجعة متأخرة، أم قناعة سياسية اكتشفها متأخراً، وهو الذي يعرف جيداً خبايا وأسرار الدولة العميقة، أم هي خرجة “مدروسة” وباتفاق مع من يهمهم الأمر لتبييض حزبه الإداري، وتبرير فشل رئيسه في قيادة الحكومة ومنتخبيه في تسيير الجماعات والمجالس البلدية، وصرف الرأي العام عن فضائح وصفقات وزرائه مع اقتراب الاستحقاقات المقبلة؟ أم فقط هي غضبة رجل ملّ من الجلوس طويلاً في الظل، وعاد يدٌقّ جدار الخزّان حتى لا يظل بعيدا عن الأضواء؟ لقد سبق له أن دق الجدار نفسه عندما انتقد التعيينات على رأس مؤسسات الحكامة، وها هو اليوم يعيد الكرة لعل وعسى! لكن ليس كل مرة تسلم الجرة.
الرسالة موقع إخباري متنوع