يرى هنري كيسنجر — الذي علّم العالم أن السياسة هي فن الممكن لا فن الأحلام — أن الواقعية هي الطريق الأقصر إلى البقاء في ميدان القوة.
لكن حماس، بخلاف تلك الواقعية الباردة عند كيسنجر، تمارس ما يمكن تسميته بـ“الواقعية الإيمانية”: مزيجٌ فريد من الصمود العقائدي والبراغماتية السياسية.
إنها تدرك أن التفاوض ليس ضعفًا، بل جولة أخرى من جولات الصراع، تُدار بأدوات مختلفة لا تقل صلابة عن رصاص الميدان.
البيان الأخير لحركة المقاومة الإسلامية حماس حول مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليس مجرد موقف تكتيكي، بل هو مشهد متكامل من الذكاء السياسي المركّب، الذي يجمع بين الحنكة والمبدئية، بين الثبات على الثوابت ومرونة الحركة في ساحات الصراع.
منذ اللحظة الأولى، يظهر أن حماس تتحدث بلغة “الدولة المقاومة”، لا بلغة الفصيل المحاصر.
البيان كُتب بميزان دقيق .. فلا هو رفضٌ مطلق يقود إلى عزلة، ولا هو قبولٌ يُفهم على أنه تراجع.
بل هو فنّ الإمساك بالخيط الرفيع بين المبدأ والواقعية، وهي مدرسة نادرة في العالم الإسلامي، أتقنها رجال من طراز خالد مشعل، وموسى أبو مرزوق، وإسماعيل هنية، ويحيى السنوار — رجال جمعوا بين روح الميدان ولغة الدبلوماسية.
في هذا البيان، تمارس حماس ما يمكن أن نسميه “المناورة الاستراتيجية بالثوابت”
فهي تقول للأميركيين والوسطاء: نحن لسنا دعاة حرب، لكننا أيضًا لن نُستدرج إلى تسوية تهدر دماء الشهداء.
تقدّر الجهود، لكنها لا تنحني ، تفتح الباب للتفاوض، لكنها تبقي يدها على الزناد.
تتكلم عن “هيئة تكنوقراط”، لكنها تربطها بالتوافق الوطني والدعم العربي والإسلامي، أي أنها ترفض الوصاية الأجنبية بصياغة لغوية ذكية، تُشعر الطرف الآخر بأنها تتجاوب، بينما هي في الحقيقة تُعيد صياغة شروط اللعبة.
من يقرأ البيان يدرك أن حماس لم تعد تلك الحركة التي يُراد لها أن تبقى في زاوية “الفصائل المسلحة”.
بل أصبحت تُخاطب العالم بمنطق “الفاعل السياسي المتماسك”، القادر على تحويل كل ضغط إلى فرصة، وكل مبادرة إلى منبر لفرض روايته.
وهذا هو جوهر السياسة كما فهمها كبار المفكرين؛
فكما قال أنطونيو غرامشي: السياسة هي حرب المواقع، وحماس تخوضها الآن ببراعة داخل كل سطر من هذا البيان.
خالد مشعل، في تجربته الطويلة، قدّم للإسلاميين نموذجًا فريدًا: رجل ميداني بوجه دبلوماسي، لا يصرخ في الميكروفونات، بل يحاور خصومه في أروقة القرار ويقلب الموازين بابتسامة الواثق.
إلى جانبه، قيادات تعرف أن السياسة ليست تنازلاً عن المبدأ، بل فنّ ترتيب المواقف بما يخدم الهدف الأعلى.
وهذا ما فعلته حماس تمامًا: وضعت خطوطها الحمراء بثقة، لكنها تركت المجال واسعًا للحركة الذكية، بحيث تبدو أمام العالم “واقعية”، وأمام شعبها “صامدة”.
إنه درس بليغ للإسلاميين في زمن التيه: أن لا تجعلوا من السياسة خصمًا للدين، ولا من الثوابت سجنًا للعقل.
أن تفهموا أن المقاومة لا تُدار بالعاطفة وحدها، بل بحسابات دقيقة تجمع بين البراغماتية المؤمنة والرؤية الرسالية.
هذا البيان ليس مجرد ورقة موقف؛ إنه تجسيد حيّ لمدرسة خالد مشعل وإخوانه: مدرسة تمزج العقل المقاوم بالعقل السياسي، مدرسة تقول للأنظمة وللعالم:
نحن لا نهرب من الطاولة، لكننا أيضًا لا نبيع على الطاولة.
في كل مرة تكتب فيها حماس بيانًا من هذا النوع، فهي لا ترد على ترامب وحده، بل تُلقّن جيل الإسلاميين درسًا جديدًا في كيف تكون السياسة فنًا من فنون الجهاد.
- أحمد الرشيد