صمت مخزي تجاه السودان

لا نريد أن نكون سودانيين أكثر من السودانيين أنفسهم، لكن أحداث هذا البلد الدامية، التي باتت صورها تعتصر القلوب وتجلد الضمائر، تجعل من الصمت خيانة أخلاقية، ومن الكلمة مسؤولية إنسانية. نكتب لا ادعاء لوصاية، بل محاولة لترك بصمة، ولو قطرة نور في بحر الظلم الذي يغمر السودان اليوم؛ بلد يختصر مأساة أمة بأكملها، تتنازعه البنادق والمطامع، ويعاقب فيه الإيمان كما تكافأ الخيانة، بلد يحاصر فيه الإنسان بين لعنتين: لعنة الجغرافيا ولعنة المصالح.❗️

من هنا يبدأ الحديث عن السودان؛ لا بوصفه مجرد أزمة عسكرية بين جنرالين، بل بوصفه صورة مكثفة للأمة التي تمزقت تحت إشراف العالم، وبأيدي أبنائها، وبعقول أُجِّرَت لغيرها.، فالانقسام لم يكن بريئا؛ حين انقسم السودان عام 2011 إلى جنوب مسيحي غني بالنفط وشمال إسلامي محاصر بالفقر والعقوبات بدا الأمر في ظاهره انتصارا لحق تقرير المصير، لكنه في جوهره كان فصلا دينيا اقتصاديا مدروسا. لم يكن التقسيم مصادفة، بل خطة لإعادة توزيع الموارد والولاءات: الجنوب، بثرواته النفطية وموقعه الاستراتيجي، ذهب إلى دائرة النفوذ الغربي، بينما تُرِك الشمال المسلم ليغرق في أزماته الداخلية، ويُقدَّم للعالم نموذجا آخر من “فشل الإسلام السياسي” و”التطرف” الذي يبرر مزيدا من التدخل الأجنبي.

لقد انتُزِع الجزء الغني من الجسد، وتُرِكت الروح تتخبط في الفقر والاقتتال، كأن السودان تعرض لعملية بتر جيوسياسي باسم الحرية، ليبقى الجسد الإسلامي ناقصا ومطعونا.❗️

الصراع الحالي بين الجيش السوداني بقيادة البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، ليس سوى تجسيد لمرحلة ما بعد التفكيك. إنه صراع على ما تبقى من الدولة، لا على بنائها. واللاعبون الخارجيون الإمارات، مصر، أمريكا، إسرائيل، روسيا، وتركيا، يختلفون في الشعارات، لكنهم يتفقون على أن السودان مساحة نفوذ، لا وطن ذو سيادة…الإمارات تمول وتشتري الذهب والموانئ، ومصر تحاول حماية مصالحها المائية، وأمريكا تراقب لتضمن ألا يقوم نظام مستقل عن نفوذها، وإ،،،رائيل تتسلل إلى المعادلة عبر تطبيع أمني خفي يهدف لتطويق العمق العربي والإسلامي من البحر الأحمر.❗️

أما القوى المحلية، فكل منها ممسوس بشهوة السلطة: الجيش يحارب من أجل الكرسي لا من أجل الشعب، والدعم السريع يقاتل من أجل الغنيمة لا من أجل الدولة. وبين الطرفين يقف شعب أعزل، يدفن أطفاله تحت الركام، وتباع ثرواته في المزاد، وتصادر أحلامه بأسماء رنانة كالاستقرار والانتقال الديمقراطي.

فالحرب في السودان ليست أهلية صرفة، بل حرب ميليشيات مأجورة لن توقفها البيانات ولا الإبادة. في المدن التي كانت تضج بالحياة، صارت الجثث مشهدا اعتياديا. انطفأت أصوات المدارس والصلوات والأسواق، وحل مكانها دوي الطائرات المسيرة. القبيلة حلت محل المواطنة، والمليشيا محل الجيش، والمناطق تدار بالعرف لا بالقانون. إنها ليست حربا فقط، بل انهيار أخلاقي شامل يعيد إنتاج المشهد العربي المكرور” إن راح الدكتاتور، غاب ما تبقى من السلم والعدل، وعاد الطغيان بثوب جديد، وكلما قتلت الفكرة، ولد السلاح”.❗️

فما يحدث في السودان ليس حالة معزولة، بل جزء من مخطط يتكرر في الجغرافيا الإسلامية: يُغذِى الانقسام المذهبي أو القبلي أو العرقي، وتفكك الدولة من داخلها، ثم يعاد تشكيلها على مقاس القوى العابرة للحدود. فلا عجبا إن تحول السودان إلى مختبر ميداني للفتن المدفوعة الأجر، حيث تتقاطع المصالح النفطية والمعدنية والبحرية، ويشغل الإعلام لتجميل الخراب، ويمنح العملاء لقب “الإصلاحيين”. في هذا المختبر، لا تقتل الدول بالرصاص فقط، بل بالمفاهيم المضللة: حرية بلا وعي، ديمقراطية بلا سيادة، وسلام يبرر الاستسلام.

إنها اللعنة الإسلامية المفروضة. منذ أن فصل الجنوب عن الشمال، بدا وكأن اللعنة قد أسقطت على كل ما هو مسلم. الجزء الذي احتضن الكنائس والنفط نجا بالثروة، والجزء الذي حمل المساجد والهوية ترك للفقر والاقتتال، كأن الرسالة المضمرة للعالم هي: “كلما تمسكتم بإسلامكم، خسرتم وتشرذمتم.” لكن هذه ليست لعنة السماء، بل لعنة الأنظمة التابعة التي سلمت رقابها للخارج، وغيبت العدالة عن شعوبها. اللعنة الحقيقية هي في أن تبيع النخب وعيها لمن يدفع، وفي أن تربى الأجيال على الخضوع، وفي أن تختزل القيم إلى شعارات ترفع في النهار وتداس في الليل.❗️

وبعد انشغالنا بإخماد غرْة، باتت السودان وكأنها إعادة توزيع مناطق الإشتعال في المنطقة، فالقضية ليست معنية بحال الخرطوم وحدها، بل عن المعنى الذي يتهاوى في الأمة كلما صمتت عن الظلم. وإذا كان قدر السودان اليوم أن يقف في عين العاصفة، فقدر الوعي العربي والإسلامي أن يقرأ هذه الفتنة لا كخبر عابر، بل كجرس إنذار لما يراد للمنطقة بأسرها. والخروج من هذا النفق يبدأ باستعادة الضمير لا السلاح، وبإعادة بناء مفهوم الدولة على أساس العدل لا الغلبة، وبإحياء فكرة الأمة كفضاء إنساني مشترك لا كحدود مغلقة.

فالسودان، كبلد إسلامي استراتيجي بين الشرق والغرب وإفريقيا، لا يحتاج إلى إغاثة فحسب، بل إلى نهضة فكرية وتنموية تُعيد إليه دوره الجسري بين الشرق والجنوب والغرب، وتُحَرّرُه من الارتهان والتبعية نحو مشروع وعي جديد يُعيدُ وصل الدين بالإنسان، لا بالسلطة.السودان اليوم بحاجة إلى إعادة تعريف معنى الانتماء والحرية والسيادة، حتى لا يبقى مجرد جغرافيا مفتوحة للمرتزقة، ولا تبقى بلاد المسلمين سائرة في تشرذم مدفوع الأجر. ذلك أن ما يُدَار في الظل برعاية الدولة الباطنية، لم يعد خافيا؛ مشروع تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ يسير بخطى حثيثة نحو غايته الكبرى: تمكين إ،،،رائيل من السيادة الرمزية والاقتصادية على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، عبر خلق محيط مفكك، ضعيف، يبرر وجودها ويُغذي أسطورتها كقوة وحيدة قادرة على ضبط الفوضى التي صنعتها بنفسها.❗️

وهكذا يصبح السودان حلقة في سلسلة طويلة من “الفوضى الخلاقة”، لا تنتهي إلا حين تنهض الأمة على وعيها، وتدرك أن الخرائط التي ترسم بالدم لا تُمحى إلا بالعدل، وأن أخطر ما يُسرَق من الشعوب ليس ثروتها، بل وعيها بمعناها.

■ لبنى كيسي

شاهد أيضاً

النقيب المكاوي بنعيسى الامين العام لاتحاد المحامين العرب ابن منطقة كبدانة يرسل رسالة الى الاستاذ عبد ااحق بنقادى المشارك بأسطول الصمود نحو غزة.

إسرائيل تُفشل إطلاق مروان البرغوثي في اللحظة الأخيرة.. مناورة نتنياهو التي تهدد اتفاق التبادل

كشف موقع ميدل إيست آي أن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حذف سرًّا اسم …

اترك تعليقاً