المفهومات منعرجات ؛ يُرجى وضع أحزامة السلامة

 قال نيتشه : " ليس الشك ما يجعلنا حمقى ، ولكنه اليقين " ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛

 يقول أمين معلوف : " لقد علمتني حياة الكتابة أن أرتاب بالكلمات ، فأكثرها شفافية غالبا ما يكون أكثرها خيانة . وإحدى هذه الكلمات المضلِّلة هي كلمة "هوية" تحديدا . فنحن جميعا نعتقد بأننا ندرك دلالاتها ، ونستمر في الوثوق بها وإن راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة " .

  يردف معلوف كشف صعوبات تحديد مفهوم الهوية مرارا وتكرارا ، ويشير إلى أنه موضوع نقاشات فلسفية قديمة منذ سقراط الذي قال وقتها : "إعرف نفسك بنفسك" ، وصولا إلى هيغل وفرويد ومرورا بفلاسفة كثيرين ٱخرين ؛ والتصدي لمفهوم الهوية حاليا يحتاج إلى الكفاية أكثر مما أملك ( هكذا اعترف معلوف ) . 

 أستنتج أن من أكثر الكلمات صعوبة في كلام أمين معلوف :

 1) أن أرتاب بالكلمات = وهذا يفيد أن النظر إلى المفاهيم نظرة تبسيطية غالبا ما ينتج المغالطات ، فأكثر المفهومات وضوحا أكثرها صعوبة كأن نطلب معنى السعادة ، العدالة ، الهوية ، الحب ، الضحك ، البكاء ، العلم ؛ ولهذا وجب إعتماد الشك المنهجي لا اليقين الأرثوذوكسي .

 2 ) أكثر الكلمات شفافية أكثرها خيانة = وهذا معناه أن الثقة في المفهومات ينتج خيانة لمعانيها ، بما يؤكد ضرورة أخذ الحيطة المعرفية في معرض منح المفهومات معاني محددة قد تكون ضد ماهيتها الجوانية .

 3 ) الهوية من المفهومات المضلِّلة بما يفيد أن هنالك من الباحثين من يناقش الهوية من وجهة نظره بخلفيات دينية أو إثنية أو قومية مغلقة ، فيسقط في الإنحرافات المتعلقة بالإنغلاق النفسي من حيث لا يدري فينحرف الوعي نحو الهابيتوس ( پيير بورديو ) ، أي ينتج الطباع والإنفعالات « البدائية » كتضامن أولي لصالح الجْماعة . وعليه لا يليق استيعاب تحديد مفهومات الإشتغال دون رويّة معرفية كفيلة بتدقيق المعنى .

 4 ) ندرك دلالاتها ونستمر في الوثوق بها وإن راحت تعني نقيضها = المعنى هنا هو تضليل الباحث لنفسه عندما يشتغل على مفهوم يعتقد أنه يدرك دلالته ويستمر في الوثوق به دون أن يتأكد أنه - ربما - يناقش نقيض ما يعنيه المفهوم في جوهره ، فينتج المغالطات أو الإيديولوجيا . 

 5 ) ب " صورة خبيثة " = ليس مجرد عفوية أن يعتمد أمين معلوف عبارة " خبيثة " وينتقيها ضمن مئات العبارات ، لأن الأمر يعني أن الصراع مع المفهومات ليس يسيرا ، وبالتالي ضرورة أخذ الحذر المعرفي في التعامل معها .

 أخلص بناءً على ما سلف أن مفهوم الهوية - كعينة للقول هنا - خبيث وصعب ، وبالتالي معظم الباحثين والمتكلمين يعتمدون المفهوم دون تدقيق النظر في ماهيته الفلسفية كما أفاد پول ريكول . وأشير هنا أن الخلط كبير جدا بين الهوية والإنتماء والجنسية والقبيلة والإيديولوجيا . لهذا صدق جيل دولوز حين أكد أن المفهوم أخطر مسرح تقام فيه الحروب المعرفية .

 أنطلق من كتابات جيل دولوز لأفيد أن المفهومات ليست مجرد عبارات لغوية تُستعمل هكذا بالمجان ، بل هي كائنات حية تنبض بالتغيير باستمرار ، ثم تعيد تشكيل الوقائع ، وتوجيه منطق تفكير الناس وتوجه حياتهم . لهذا فصناعة المفاهيم أخطر عملية يقوم بها الفيلسوف .

 عند جيل دولوز المفهوم ليس جامدا ، بل يتطور باستمرار ؛ فهو جملة من العلاقات المعقدة ضمن شروط منها : سياق الولادة / التحرك ضد الثبات / التغير المفاجيء والمستمر / اللُّبس والغموض / التحول المستمر . إنه قوة تنتج واقعا معرفيا جديدا ، إنها أدوات لتركيب الواقع ، وليس مجرد عبارة لغوية توظَّف بجمود لصالح تأويلات خاصة .

 أبلغ مبلغ كون المفهومات قادرة على صناعة الخراب من خلال : قلب منظومات التفكير ( فيليكس غواتاري = المفهوم أداة حرب ) / تفكيك أنماط السلطة ( ميشل فوكو = أينما يوجد المفهوم يوجد الخطاب ، وأينما يوجد الخطاب توجد السلطة  ) / قد يكون بريئا أو قمعيا ( Logique de sens ) كما ذهب إلى ذلك غواتاري .

 إن إنتاج المفاهيم مغامرة فلسفية مفتوحة على المجهول ، ويمكن الرجوع إلى جيل دولوز وفليكس غواتاري في " ما هي الفلسفة Qu'est ce que la philosophie " لتعقب هذه الٱثار . كما يمكن قراءة " الفرق والتكرار La différence et la répétition " لجيل دولوز لفهم مشاق نحت المفهومات وفهمها وتحليلها عكس ما قد يذهب إليه بعض المتكلمين .

 على غرار ما ذهب إليه أمين معلوف في صعوبة تحديد مفهوم الهوية ، وما ذهب إليه جيل دولوز في الإتجاه ذاته ؛ يحضر الإسلامولوغ محمد أرݣون لتأكيد الموقف بلا هوادة في معرض حديثه عن المفهومات داخل حقل الإسلاميات التطبيقية . فالتعامل مع المفهومات ليس مهمة بسيطة ، لأنها دائما ثقيلة ومعقّدة ومحمّلة بتاريخ ممتد من الصراعات المعرفية والإيديولوجية ، وهي ليست فقط صعوبة لغوية ، بل تمتد نحو العوائق الثراتية والإيديولوجية والمنهجية والليسانية . وبهذه الصعوبة يؤكد أرݣون ضرورة الإنطلاق من شروط كثيرة في التعامل مع المفاهيم مثل : الشرط السيميائي / الشرط الأنتروبولوجي التاريخي / شرط سوسيولوجيا المعرفة / شرط النقد التاريخي . 

   صفوة القول ؛ إن اعتماد تأويل المفهومات من دون سند منهجي - معرفي مؤسس على الحذر الإبيستيمي قد ينتج نقيض المفهوم نفسه ، وبالتالى ينفتح على مغالطات بيّنة تسيء لماهيته وتباعا تنحرف التحليلات عن مقاصد المفهومات . لهذا أزعم إن تفكيك مفهوم الهوية مثلا ليس من السهولة كما يذهب البعض ، بل لا يخلو من مشاق بعلة التقارب والخلط الكبير بين الهوية من جهة ، ومفاهيم أخرى مثل الإنتماء والوطنية والجنسية والقبيلة - العشيرة والمشترك والذات والشخصية والكينونة والوجود الخاص والخصوصية والطابع الخاص والشخصية الجماعية والوجدان العام ؛ وغيرها . 

 ختاما ؛ ليس يسيرا بناء مداخلة معرفية إنطلاقا من الوعي المعرفي السليم ( الإبستيما ) ، إذ كل المفهومات ملغومة كما ذهب إلى ذلك بول ريكور Paul Ricœur في معرض حديثه عن " الذات عينها كأخر " ( Soi-même comme un autre ) . ويكفي فهم الفروقات بين الهوية الثابتة Idem والهوية المتحولة Ipse للتأكد من صعوبة إنتاج المعنى . و ما تأويلات ستيوارت هول Stuart Hall وشارل تايلور Charles Taylorإلا قرينة معرفية على  التقائية كبيرة بين معلوف ودولوز وغواتاري وأرݣون وريكور وهول و تايلور . ولهذا وجب ويجب عليَّ - ها هنا - الإحالة على هذه المحددات الثلاثة قصد تدقيق النظر :  déterritorialisation و Reterritoriolisation و Assemblages ؛ أي الخطوط الثلاثية عند غواتالي في معرض التأكيد على أن الهوية ديناميكية باستمرار ؛ أي في تفكّك ثم تشكّل مستمرين .

 * الصورة - الهنا والأن بمكان ما - بُعَيد لقاء فكري يومه الأحد ، ونُكهة الأحد غالبا عندي كئيبة بعلة الإفتقار إلى شروط السعادة في هذه القفار .
■ سعيد تاشفين

شاهد أيضاً

بيان للرأي العام من عزيز رباح: الإعلام المُدَلِّس لا اخلاق له (إذا لم تستحي فاصنع ماشئت واسترزق كما أردت)

تعمدت بعض المنابر الإعلامية التدليس من خلال تحريف مضامين تحقيق يتعلق بشأن إسباني داخلي، من …

بوح صريح: ويل لمن سبق عقله زمانه

■ د. عالية شعيب د. عالية شعيب قال المعلم الأول سقراط حين شرع بشرب السم …

اترك تعليقاً