لم تكن المحكمة الابتدائية بوجدة، التي شُيّدت سنة 1913، مجرّد بناية إدارية، بل مثلت منذ تأسيسها منارةً للعدالة الحديثة في لحظة مفصلية كان المغرب يمرّ خلالها بتحولات قانونية عميقة. لقد كانت أول محكمة في الجهة الشرقية تعالج قضايا التحفيظ العقاري، في زمن لم يكن فيه الكاداستر ولا الكتابة القانونية مألوفين في أغلب ربوع البلاد.
من بين الأسماء البارزة التي ارتبطت بهذه المرحلة، يبرز اسم بول ديكرو (Paul Decroux)، الذي سيصبح لاحقًا أستاذًا مرموقًا في كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، ومؤلفًا لأحد أهم المراجع في القانون العقاري المغربي. قبل مسيرته الأكاديمية، عمل قاضيًا شابًا في وجدة، وكان يطوف الدواوير الممتدة من سيدي يحيى إلى ضواحي جرادة، ممتطيًا جواده، رفقة كاتب ضبط ومترجم، لشرح مفهوم التحفيظ العقاري وفوائده للفلاحين وسكان البوادي.
يُروى أن أحد أعيان القبائل قال له ذات يوم: “نحن نثق في طوابعكم أكثر من شهودنا”. كانت هذه العبارة البسيطة تعبيرًا عميقًا عن بداية التحول من الأعراف الشفوية إلى العدالة المكتوبة، ومن الثقة في الأشخاص إلى الثقة في المؤسسات.
وجدير بالذكر أن مدينة وجدة كانت ثاني مدينة في المغرب تحتضن مصلحة المحافظة العقارية بعد الدار البيضاء، في وقتٍ كانت فيه الرباط نفسها تابعة إداريًا لمحافظة الدار البيضاء. وقد توافد على محكمة وجدة آنذاك مواطنون من فاس وتازة وحتى من نواحي الأطلس المتوسط، لتسجيل ممتلكاتهم بسبب فعالية الخدمات الإدارية وجودة الكفاءات التي تم تكوين أغلبها محليًا.
داخل أروقة المحكمة، كان رجال القانون المغاربة الشباب يحتكّون بالقضاة الأوروبيين في بيئةٍ مشحونة أحيانًا، لكنها مفعمة بالتعلّم والانفتاح. وقد أقرّ العديد من القضاة المغاربة المخضرمين بأنهم تعلموا في وجدة ليس فقط دقّة النصوص القانونية، بل كذلك فن الإصغاء للمواطن، وفهم خصوصيات الواقع المحلي.
هكذا كانت المحكمة الابتدائية بوجدة أكثر من مجرد مؤسسة: كانت ورشةً للتجريب، ومدرسةً للعدالة الحديثة، وجسرًا للحوار بين الثقافات القانونية. في قلب الشرق المغربي، صنعت هذه المحكمة تاريخًا لا يُقاس بعدد الملفات، بل بعمق الأثر الذي تركته في وجدان القانونيين والساكنة على حدّ سواء.