عبد الصمد لغميري
تنهض كل أمة بقدر ما تستثمر في تعليمها، وكل مشروع وطني لا يكتب له النجاح إلا إذا انطلق من المؤسسات التعليمية والجامعات باعتبارها البوابتين الأساسيتين لبناء الوعي وصناعة الإنسان، لكن واقع الحال عندنا يكشف أن معركة التعليم كانت ولا تزال المعركة الأكثر تعقيدا، بل لعلها المعركة التي خسرنا فيها الكثير دون أن نستوعب حجم الهزيمة.
الإشكال الجوهري الذي لازم المنظومة التعليمية منذ عقود حسب المفكر المغربي محمد خمسي هو أنها ظلت أسيرة الصراع الأيديولوجي والحزبي، إذ تحولت المؤسسات التعليمية إلى ساحة لتصفية الحسابات أكثر من كونها مشروعا استراتيجيا يضع مستقبل الوطن فوق كل اعتبار، ولعل ما زاد الطين بلة هو غياب رؤية موحدة تجعل التعليم رافعة للتنمية لا ورقة انتخابية موسمية.
ثم إن التركيز على الإصلاحات التقنية وحدها أفرغ العملية التربوية من بعدها الإنساني، فالعلوم الدقيقة والمعارف المجردة لا تكفي لبناء عقل مبدع وفاعل، ما لم تساندها العلوم الإنسانية والفلسفة والفنون والتربية الأخلاقية…إقصاء هذه المكونات جعلنا أمام أجيال تعيش فراغا في الانتماء والقدرة على النقد والتعبير، وكأن المؤسسات التعليمية لم تنجح في إنتاج مواطن واع بقدر ما أفرزت كيانات هشة تائهة في خياراتها.
وإذا نزلنا من مستوى التشخيص العام إلى الواقع المحلي، نجد أن إقليم بركان يعكس بوضوح حجم الأزمة التي تعيشها المنظومة التعليمية، فانتشار المخدرات بمحيط المؤسسات التعليمية، وتحول بعض الأحياء إلى فضاءات موازية تستدرج التلاميذ نحو الانحراف، جعل من المؤسسات التعليمية ساحة مفتوحة على كل أشكال الهشاشة الفكرية والسلوكية، وهو ما يطرح بإلحاح مسؤولية مشتركة بين الأسرة والمؤسسات التعليمية والسلطات الأمنية والمجتمع المدني.
كما أن هشاشة الفكر داخل الوسط المدرسي تبدو في ضعف قدرات التلاميذ على النقاش الحر والتفكير النقدي، الأمر الذي يهدد بخلق أجيال مسلوبة الإرادة تفتقد حصانة فكرية وقيمية أمام تحديات العصر، وهنا تبرز الحاجة إلى إصلاح تربوي يدمج التربية على المواطنة والقيم الأخلاقية والفنون، إلى جانب تطوير المناهج العلمية.
لكن الإصلاح المنشود يظل رهينا بتعاون مختلف المتدخلين: من إدارات ومؤسسات تربوية، إلى سلطات محلية وفاعلين مدنيين، مع تفعيل حقيقي لمبادئ الحكامة الجيدة في التدبير والمتابعة والتقييم، فنجاح أي إصلاح لا يقاس بالشعارات، بل بمدى قدرته على حماية التلميذ من الانحراف، وتأهيله ليكون مواطنا فاعلا في تنمية محيطه ووطنه.
إصلاح التعليم لا يعني تكديس المعلومات، بل تربية العقول على المرونة والقدرة على التوظيف الخلاق، ولتحقيق ذلك لا بد من إدماج خبرات علم النفس والتربية وعلم الاجتماع في صياغة المناهج والبرامج، لأن الامتحانات التي تعتمد على إعادة إنتاج ما حفظ، لا يمكنها أن تخرج عقولا مبتكرة قادرة على مواجهة تحديات العصر.
كما أن الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى شرط أساسي، لكن ليس على طريقة النسخ واللصق والاستيراد الأعمى، وإنما وفق قراءة يقظة وواعية تراعي خصوصياتنا الثقافية والتاريخية، فلكل مجتمع موارده الرمزية وتجاربه التي ينبغي أن تكون منطلقا لأي إصلاح حقيقي.
وقد لخص المفكر المغربي محمد خمسي هذا الوضع بدقة حين قال: إذا كان من معركة انهزمنا فيها، فهي معركة التعليم… ولكن مع ذلك لا يجب الاستسلام.
والحقيقة أن الاستسلام ليس خيارا ، لأن المعركة لا تخص المؤسسات التعليمية وحدها، بل تخص مستقبل وطن بكامله، فإما أن نعيد بناء منظومة تعليمية تصنع إنسانا حرا ومبدعا ومسؤولا، أو نستمر في إنتاج أجيال هشة تعيش على هامش العصر، وهنا لا مجال للمجاملة ولا للتأجيل، لأن إصلاح التعليم اضحى شرط وجودي لبقاء الأمة واستمرارها.
